الرئيسية » إني أتهم عقلي!l/ محمد ولد المنى
إني أتهم عقلي!l/ محمد ولد المنى

بعد الخطاب الذي تابعناه على شاشة التلفزيون “الوطني” من نواذيبو، وكنا شهوداً على ما ورد فيه من توصيفات لفظية غير مألوفة في المنثور من كلام الرؤساء والمسؤولين، بل تُعد غريبةً على معهود القول في نقاشات الشأن السياسي بوجه عام، قلنا: رحم الله زمناً قيل فيه إن كلام الملوك ملك الكلام!
خطاب “رئيس البلد العزيز” أخذ نصيبه – وأكثر- من وقت حكومة نواكشوط المرافقة، وجموع “الوجهاء” و”الأعيان” الذين جيء بهم أفواجاً من باقي ولايات الوطن، وبالطبع من وقت البث التلفزيوني لقناتنا “الوطنية”… ومن وقتنا نحن عامة المواطنين الذين تفهّمنا إلقاءه باللائمة في كل شيء على الأنظمة السابقة، ولم نستطع – ربما لقصور في ملكاتنا العقلية- فهمَ قوله إن المعارضة سرقت كل شيء في البلاد، ويشمل ذلك أفكاره الشخصية العظيمة، ومنها الفكرة التي لم يسبقه إليها أحد من العالمين حول أهمية التعليم الفني لتنمية الدول والمجتمعات!
حسناً لقد سبق للمعارضة أيضاً، وفي عام 2009، أن اشتكت من أن “رئيساً مرشحاً” قام بالاستيلاء على شعارات راكمتها خلال عشرين عاماً من العمل السياسي المضني، ومع ذلك فقد اكتفت بتسجيل الشكوى كملاحظة عابرة، ولم تتوقف عندها مطلقاً. أقول أيضاً إنه بسبب القصور الإدراكي أو غيره، لم نفهم نحن الشعب ما تفضل به “رئيس البلد العزيز” من أن المعارضة هي السبب المباشر والعلة الأولى وراء “مؤامرة الجفاف”، ثم قوله في ذات الوقت إن كارثة الجفاف لا وجود لها إلا في أذهان المعارضة! وبالطبع فهذه لا تحتاج إلى تعليق!
كما استعصى على فهمنا المحدود قوله إن “عجائز الثوار الجدد” إنما ثاروا لأنه أجبرهم على دفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والديزل..! لقد هانت المشكلة إذن وبات حلها أسهل من شرب الماء؛ فلنمنحهم تلك الأشياء، وستنتهي “الدوشة”! لكن الواقع أن الأمر أكبر من ذلك، والشعب كله مجبرٌ اليوم على سداد جميع الفواتير، وبأغلى تعرفة لها على وجه الأرض. ولم يكن في متناول فهمنا أيضاً قوله إن عواجيز الثوار الجدد يعارضونه لكونه أول رئيس يحارب الفساد، وهم من خلقوا ذلك الفساد ورسخوه ويستفيدون من استمراره! وفي هذه النقطة، فلأن الرئيس بلا لحية فنحن متأكدون أنه لا يكذب أبداً، ولأنه كذلك رئيس فالتعبير يخافه ولا يخونه مطلقاً، كما يستحيل أن يقصر به الفهم عما يريد إفهامنا إياه… لذلك فقد اتهمنا –مرة أخرى- عقولَنا بالقصور والذهول وعدم الحضور، وربما فكرنا في الذهاب إلى عيادة الطب النفسي لتشخيص حالتنا الذهنية.
ومع ذلك فنحن متأكدون أن عواجيز الثوار الجدد، مثل “جميل” و”ولد داداه” و”ولد بدر الدين”… ما كانوا جنوداً مجندين سنين طويلة في خدمة ولد الطايع، ولم يحابيهم يوماً بأوسمة وترقيات ونياشين وغيرها… ومتيقنون أن أياً منهم لم يسيّر ميزانية الحرس الرئاسي يوماً واحداً، وأنهم لا يملكون منشآت تستهلك الكهرباء بلا حساب، وكزرات شاسعة تصب فيها مياه إيديني دون عداد آلي أصلا.
أما المرات التي استفادوا فيها من خدمات الماء والكهرباء على حساب الخزينة العامة، فلعلّها حين كانوا نزلاء في سجون ولد الطايع، غير بعيد عن أعين الحرس الرئاسي ومسؤولياته “الحيوية”. أما أين كان ولد عبد العزيز خلال تلك السنين، حين كان أولئك “العواجيز الضعفاء” يهاجمون استشراء الفساد والمحسوبية وحكم الدكتاتورية وتزوير الانتخابات وهدر المال العام… بإرادة صلبة وشجاعة قلّ نظيرها، فلم يحدِّثنا “رئيس البلد العزيز” عن ذلك بكلمة واحدة، وبالطبع لم يشأ لنا أن نتذكر صولاته وجولاته في حماية النظام والحفاظ على بقائه طوال عشرين عاماً، قبل أن يقرر سيد القصر إبعاده من غرف الرئاسة المكيفة على شاطئ الأطلسي إلى خطوط المواجهة مع “القاعدة” في صحراء المغيطي الحارقة، ليصبح قرار الانقلاب خلاصاً شخصياً!
صحيح أن البطاقة البيضاء كانت وصمة عار في جبين “المرحلة الانتقالية”، لكن من قال إن “محمد ولد عبد العزيز ولد اعليّه” كان بعيداً عنها، وهو الماسك بخيوط السلطة كلها منذ 3 أغسطس 2005؟ وأين منها إقحام رجل طيب في “انتخابات” الرئاسة، كي يكون ألعوبة بيدي كبير الحرس، بعد أن قام الأخير بإفراغ خزائن المؤسسات العمومية لتمويل حملة شراء الولاءات لصالح مرشحه؟ ثم أين من ذلك إزاحة “رئيس منتخب” عن طريق القوة، في أوضح دليل على الاستهتار بالديمقراطية والدستور والقانون؟
“كلام” كثير غير متسق مع بعضه ولا مع الواقع، ولا يدخل أدمغة العقلاء مطلقاً، قاله “رئيس البلد العزيز” في نواذيبو، فاعتبر أحد أنصاره أنه بذلك “الكلام” أخرس الألسن، وكان عليه أن يقول: “أخرس الألسن الخرساء لجماعة الدعم اللامشروط في كل الأزمنة والعهود”! بينما قال مناصر آخر إنه تنفس الصعداء بعد سماعه “الكلام”، فأشفقت عليه شخصياً من أن ينقطع نفَسُه قريباً!
لقد كنّا شهوداً على تهويمات وتمويهات كثيرة (حتى لا أقول أكثر من ذلك)، وقد ردّت عليها المعارضة رداً سياسياً وفنياً وافياً، دون إسفاف ولا غوغائية، وفنّدت “الكلام” عن آخره… فهل نتّهم عقولنا والحال هذه، أم نتّهم “رئيس البلد العزيز” باستنقاص قدراتنا العقلية على الفهم؟